نظم فريق البحث: ثقافة، تخييل، أدب بالكلية المتعددة التخصصات بمدينة أسفي، في المغرب، في السادس من يونيو-حزيران الجاري، ندوة علمية في موضوع: "امتدادات التخييلي والسردي في التجربة الإبداعية للكاتب والشاعر اللبناني شربل داغر"، احتفاء بهذا الصوت المتميز والمختلف في المشهد الثقافي العربي المعاصر، وشارك فيها الدكاترة النقاد: محمد الداهي، إدريس الخضراوي، إبراهيم نادن، زكريا أبو مارية، فيما تغيبت الدكتورة حورية الخمليشي لأسباب صحية طارئة.

 

 

علامة فارقة

استهلت الندوة بالكلمة الافتتاحية التي قدمها الدكتور إدريس الخضراوي نيابة عن عميد الكلية، حيث رحب فيها بالأستاذ المحاضر الدكتور شربل داغر،  وأبرز أهميته في الحقل الثقافي والنقدي العربي. فهو باحث وكاتب يتواشج في عمله حس الفنان وبصيرة الناقد. وهذا ما يضفي على أعماله ميزة خاصة تتمثل في الانطواء على ممكنات عديدة. كما اعتبر أن أعمال شربل داغر النقدية والشعرية والروائية تتعين بوصفها علامة فارقة، لأنها تحمل إضافات نوعية ومبتكرة يمكن اعتبارها حصيلة ما اختزنه هذا الناقد الكبير من جماليات الإبداع العربي والإبداع العالمي. وهنا مكمن تفرد نصوص الأستاذ شربل داغر، واختلافها.

وفي حديثه عن سياق هذا اللقاء العلمي أشار الأستاذ الخضراوي إلى المنظور الذي تعقد في ظله هذه الندوة، وهو الحديث عن الشعر العربي بين القصيدة والبيت، وهو محور أساس برزت فيه جهود الأستاذ الدكتور شربل داغر شديدة الأهمية، لما انطوت عليه أبحاثه ودراساته من ضروب الإنتاجية والإضافة العلميتين منذ كتابه: الشعرية العربية الحديثة : تحليل نصي"، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء (1988) إلى القصيدة والزمن : الخروج من نظام الواحدية التمامية"، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2015 مرورا ب الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية"، منتدى المعارف، بيروت، 2012. و"الشعر العربي الحديث : كيان النص"، منتدى المعارف، بيروت، 2014. و"الشعر العربي الحديث : القصيدة المنثورة"، منتدى المعارف، بيروت، 2015، فضلاً عن عشرات البحوث العلمية المحكمة. وقد خلص في ختام هذه الكلمة إلى أن هذا الحدث العلمي يكتسي أهمية خاصة بالنسبة لشعبة العلوم الإنسانية والآداب والفنون، لأنه سيتيح للباحثين والطلبة فرصة ملائمة للاقتراب من أعمال هذا الناقد الرَّصينِ، ومن الأسئلة التي شغلته على مدى أربعة عقود من البحث الجاد والعميق في النص الإبداعي العربي نقدا وتأليفا وإبداعا.

 

بين البيت والقصيدة

خلال الجلسة العلمية الأولى قدم الدكتور شربل داغر محاضرة بعنوان: الشعر بين البيت والقصيدة: قراءة تكوينية، ومما قاله الباحث في محاضرته : "لطالما سُئل الأستاذ الجامعي أو الناقد العربي: لماذا لا تعول على النقد العربي القديم في درسك للشعر العربي القديم ؟ وهو السؤال عينه الذي يُطرح هنا وهناك بدراية أو من غير دراية. وهو سؤال جدير بالبحث وإن لم يكن ملزماً بالضرورة. ولو عاد المجيب عن السؤال إلى مدونة النقد العربي القديم، لما وجد فيها ما يفيد لجهة درس القصيدة، إذ اكتفى النقد القديم بدرس البيت فيها وحسب. ولو عدنا إلى أهم كتب النقد هذه لما وجدنا غير نقد بيت بمفرده أو اثنين أو ثلاثة وأكثر في النادر؛ وإن كان هناك من استثناء، وهو ما يتمثل في إجراء قراءة نقدية لقصيدة فيتمثل في درس معلقة امرىء القيس (في مقارنة مع القرآن الكريم)، على أن الناقد يكتفي بدرس أزيد بقليل من عشرة أبيات، ووفق منطق درس البيت المفرد.

ومع ذلك يمكن العودة إلى أحد كتب النقد المتأخرة، "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني (1211-1386)، وقد وجدت فيه ما يدل على مسائل في بناء القصيدة القديمة، وفي ما يتعدى البيت الواحد. ولكن لماذا المقاربة التكوينية ؟

وأضاف الباحث بأنه طلب في هذه المحاضرة معالجة وجه من وجوه القصيدة ابتداء من هذا الكتاب، وقد جمعه بمجموعة كتب أخرى للناقد الفرنسي جيرار جينيت، مثل "مدخل لجامع النص" و"عتبات" وغيرها. فما المقصود بذلك ؟

يتحقق الدارس، في استعراض أوجه الدرس المتأخر للقصيدة، من أن النقد تغافل أو أسقط أو لم يولِ اهتماماً بما بات يسمى: علم "ما قبل النص"، أو "عتباته" وغيرها من التسميات السارية. وهي مقاربات متعددة اعتنت بوجهين من وجوه النص: مسودات النصوص، من جهة، وما يحيط بالنص أو "عتباته"، من جهة ثانية. ويمكن أن نضيف إليها وجهاً آخر هو درس "النوع" الأدبي، كما هو معروف في النقد القديم، أو في بعض دراسات المتأخرين، مثل جيرار جينيت وجان-ماري شافر وغيرهما. هذا ما جمعتُه، في دراساتي، تحت عنوان واحد هو: المقاربة التكوينية، وقد عرَّفتُها في أحد كتبي الأخيرة كما يلي: تعنى بدرس "ما قبل النص"، وهو "ما يسبق النص نفسه، وما يفعل في بنائه. ويشير ما قبل النص إلى مواد مختلفة، منها: مسودة النص نفسها، أو العمليات الكتابية الجارية فيها، وغيرها مما يدخل في تكوين النص. ومن هذه المواد أيضاً "الجنس" (شعر– نثر، رواية، مسرحية...)، و"النوع" (رواية، قصة قصيرة، سيرة ذاتية...)، الذي يندرج فيه النص؛ وهو خيار ابتدائي يتبناه الكاتب ويشرع على أساسه بكتابة نصه، وفق محددات وقواعد معينة، سابقة على البدء بفعل الكتابة نفسه". وهذه المواد والخيارات المختلفة تسبق النص وعملَ الكاتب، إذاً، وهي مما لا يلحظه الدرس اللساني البنيوي بالضرورة، إذ يبقى مركزاً على حدود النص "الداخلية"، إذا جاز القول، أي على تشكلات بنائه اللغوي وحدها. وأقصد بالمقاربة التكوينية الخيار بل الخيارات الابتدائية التي يشرع بها الشاعر قبل أن يكتب قصيدته واقعاً؛ وهي نوع من المحددات الملزِمة، أو الطوعية، له.

كتاب حازم القرطاجني "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"  يوفر في بعضه مدونة صالحة أبتدىء منها لمعالجة "تكوينية" القصيدة القديمة : ماذا ؟ وكيف ؟

 

بين "المباني" و"المعاني"

ما يستوقف، بداية، في كتابه، هو أنه أقام الدرس على ثنائية، هي تأسيسية بدورها في الدرس البنيوي الحديث، وهي عنده : "المباني" و"المعاني". ويمكن للمتتبع أن يتحقق من أن القرطاجني عرض عدة تعريفات تساعد في التعرف على مكونات القصيدة قبل البيت وبعده، إذا جاز القول. فهو لا يكتفي، مثل غيره، بالحديث عن البيت، أو بنقده، وإنما يتبين تحققات مختلفة للقصيدة، مثل تمييزه بين : "القصيد" (ذي الأبيات المعدودة)، و"القصيدة" (ذات الأبيات العديدة).

كانت للشاعر العربي القديم محددات ملزِمة ومحدِّدة لقصيدته، وتخص "المباني" و"المعاني"، وقبل أن تقوله اللسانية الحديثة والبنيوية، أياً كان درس النص بين شعري وروائي وغيرهما. الشاعر القديم عليه أن يختار : الوزن، النوع، القافية، وجمالية البيت؛ أي أن البيت وحدة كاملة، ناجزة. البيت في الشعر القديم بيت مكتمل مبنى، إلا في النادر النادر حين يضطر الشاعر إلى النزول من آخر البيت إلى البيت التالي (ما يسمى "الجريان"). البيت مكتمل مبنى، نحواً، وزناً، قافية؛ ومكتمل هيئة خطية، إذ إننا لو عدنا إلى مخطوطات الشعر القديم لوجدنا الناسخ ينهي البيت بفراغ طباعي قبل حصول الطباعة نفسها.

الشاعر يبتدىء بمجموعة من الخيارات، وهي محدِّدات بالتالي. لو توقفنا وتتبعنا ما يقترحه القرطاجني لوجدنا أنه يقدم لنا ألفاظاً اصطلاحية، مفاهيم، نقاط استدلالية، تكوينية للقصيدة القديمة. يتوقف هذا الكتاب عند القصيدة "القصيرة" و"المتوسطة" و"الطويلة". وهو لا يكتفي بتحديدها من جهة الكم (عدد الابيات) وإنما يحددها بالأغراض أيضاً : القصيدة القصيرة تكتفي بمقصد واحد، والمتوسطة بمقصدين... كما يتحدث عن البناء "البسيط" في القصيدة، الذي يتعين في نوع بعينه، فيما يتعين البناء "المركب" في أكثر من نوع شعري... ولقد سمحتُ لنفسي إضافة نوع، وهو القصيدة المدحية، بعد أن توصلت إلى تعيين القصيدة هذه، في العصرين العباسيين الأول والثاني، بوصفها مؤسسة جمالية بكل المعاني.

فلقد باتت النموذج الأساس الذي يُمكِّن الشاعر من إظهار مقدراته المتعددة والمتنوعة في قرض الشعر، بين مدح ونسيب ووصف وفخر وخلافها. أقام البعض لهذه القصيدة تفسيراً يقرنها بانتقال المادح إلى الممدوح، وما يسبقه ويتخلله من أحوال، قبل الوصول إلى بلاط الممدوح و"صفاته"، فيما أرى أن قصيدة المدح بُنيت، وطُلب منها أداء مقاصد شعرية متعددة بما يُظهر مقدرات الشاعر قبل أي شيء آخر. وما يعنيني أننا نلحظ، في شعر المدح، تبلوراً كبيراً لهذا النوع بحيث بات الشاعر يُبرز – إذ يُمتحن – قدراته في الشعر، كما لو أن قصيدة المدح أصبحت تجمع درر الشعر.

لو اتبعنا القرطاجني من جديد في "نهجه"، لوجدناه يتحدث عن "الفصول" و"الفواتح" و"اللواحق" و"الأواخر"... ويتحدث عن "الاقترانات"، أي العلاقات بين الأبيات، وعن "حسن التخلص"، أي الانتقال اللطيف والحاذق من بيت إلى آخر... إلى غير ذلك من الألفاظ الاصطلاحية التي تصلح على الأقل في مباشرة تحليل القصيدة القديمة.

ومع ذلك أقول بأن ما تحدث عنه القرطاجني في باب "المباني" يعاين القصيدة لكنه يطلب لها مثالاً لها في واقع الأمر. يرد في كتابه كثيراً : "ينبغي"، و"يجب"... حيث الناصح يأخذ دور الناقد. تروق للقرطاجني أواخر قصائد المتنبي فيما لا نجدها عند غيره، إذ تنتهي قصائد الشعراء، أو تتوقف فجأة من دون سابقة وصول. لذلك يمكن نقل بيت من مكان إلى آخر، حيث إن البيت قصيدة في حد ذاته. هذا لا يغيب أن شعراء كثيرين، ولا سيما في العصر العباسي الثاني، أقاموا ترابطات بين الأبيات : حين يقوم الشاعر بتتبع غرض، أو بـ"تفصيل" المعنى، كما عند ابن الرومي، أو بتتبع استعارة "ممتدة" كما في وصف الحمى عند المتنبي، أو بتتبع أحوال المعركة في قصيدة "فتح عمورية"... وأحب أن ألفت النظر إلى أمر أدهشني عند المتنبي، وهو أن المبدأ الناظم عنده ليس البيت وإنما الشطر : أكثر أبيات قصيدة "ملوكما..." يتعين بناؤها في الشطر، لا في البيت.

لو انتقلنا إلى "المعاني" لوجدنا أن القرطاجني يجمع بين الشعر والخطابة، فيما أضاف غيره أنواعاً أخرى من النثر؛ وأظن أن جمعه بين الشعر والخطابة يعود إلى تأثره بالفكر البلاغي اليوناني القديم. ولو تفحصنا مواصفاته (ترابطات، فصول، اقترانات...) فسنجد أن فكرة الخطبة المتعينة في فصول والمتدرجة كانت عاملاً مؤثراً في تعريفه لبناء القصيدة. وقد تكون شواغله الفلسفية هي التي جعلته ينظر إلى القصيدة بشكل مترابط، فيما لم تكن خاضعة له بالضرورة. في "المعاني" يتوقف عند "الأنواع" الشعرية، ويحددها تحديدات من الواضح أنها ذات نسب فلسفي، بل جمالي أيضاً. فمعاني الشعر عنده أنواع : الارتياح، الاكتراث... ويقع تحتها : الاستغراب، والنزاع والخوف وغيرها، ويقع تحتها : المدح والنسيب والرثاء وغيرها. وهو الوحيد ربما الذي عارض تماماً نظرية الأنواع المقرة في النقد القديم.

وسؤال الأنواع ضروري : لماذا قامت ؟ أهي أنواع ذات مقاصد اجتماعية، مثل المدح والرثاء ؟ وماذا عن الوصف ؟ أله مقصد حيادي ؟ وماذا عن الغزل ؟ أله مقصد فردي ؟

الشعر العربي القديم لم يدرس كفاية : قصيدة المدح تستحق درساً متأنياً، بين ما كانت عليه في قديمها، وما تحولت إليه وفق احتياجات ناشئة : سواء في العهد المحمدي (مع الدعوة)، أو في العهد الأموي (مع تشريع الحكم)، أو في العهد العباسي (حيث تحول المدح إلى خطاب سلطاني وجمالي في آن).

ما يتضح هو أن هناك سوابق اعتُمدت وطُبقت في الشعر (الوقوف على الأطلال...)، أشبه بمنحى كلاسيكي. والأكيد هو أن نموذجاً مستَحسَناً للشعر، للحسن، كان يُطلب، ويقتدى به.

هناك نموذج مستحسن، جمعي، ما يتعين في محددات تكوينية تحديداً، فيما تسقط هذه مع القصيدة الحديثة، التي هي صعبة التحديد : أين أنواع الشعر مع قصيدة اليوم ؟ ما هي المحددات الملزمة للشعر الحديث ؟ هي لا تشبه القديمة بأي حال".

 

بين الشعر والسرد

الجلسة العلمية الثانية تكرّست للتجربة الروائية والشعرية للكاتب شربل داغر، وعرفت ثلاث مداخلات، الأولى قدمها أستاذ السيميائيات في جامعة محمد الخامس الدكتور محمد الداهي بعنوان: تجليات التجريب في رواية بدل عن ضائع للكاتب شربل داغر، وقد انطلق في مصاحبته النقدية لهذه الرواية من مجموعة من المحددات المؤطرة للكتابة الروائية العربية المعاصرة والمائزة لجمالياتها المختلفة، قبل أن يتقصّى أبعاد تجريبية في رواية "بدل عن ضائع"، وتمثلت في اللغة الروائية المبتكرة والتذويت الذي يضفي بعدا ذاتيا على علائق الشخصيات بالعالم الذي تتحرك فيه وتنهض فيه بأدوارها.

والمداخلة الثانية قدمها الناقد إدريس الخضراوي في موضوع: الكتابة عبر الثقافات والحدود، قراءة في رواية "شهوة الترجمان" للروائي شربل داغر، وقد انطلق الباحث في هذه الدراسة من بعض المفاهيم التي تشكل أساس خطاب مابعد الكولونيالية عند هومي بابا كمفهوم الترجمة الثقافية والهجنة والاختلاف الثقافي، معتبرا أن الكتابة الروائية عند شربل داغر في هذه الرواية تنتمي إلى هذا الأفق الجمالي الذي ترتاده الرواية العالمية المعاصرة حيث ينهض السرد بوظيفة الرّد على المنظورات المتصلبة والمنغلقة بخصوص الهوية والثقافة. وقد ألمع الباحث إلى مستويات عديدة مميزة لهذه الرواية على مستويي الشكل والخطاب تمثلت في البعد الحواري الذي يحمل إلى الرواية أصداء عديدة متناغمة أحيانا ومتنافرة أحيانا أخرى، بالإضافة إلى التخييل الذاتي الذي يوفر للكاتب إمكانات عديدة لوضع الحقيقة الواقعية موضوع تخييل. كما أبرز تميز الرواية بالتأملات العميقة التي يقدمها الروائي حول الكتابة الإبداعية والجدوى منها، مستنتجا أن هذا الملمح يعد جوهريا في الكتابة الأدبية لشربل داغر التي يواشج فيها بين حساسية الفنان وبصيرة الناقد.

أما المداخلة الثالثة فقدمها الباحث الدكتور إبراهيم نادن وتناول فيها مفهوم القصيدة في التجربة الشعرية للشاعر شربل داغر، حيث انطلق من التفاؤل الذي يغمره عن مستقبل الشعر العربي رغم ما قد يعترضه من الأزمات، إذ كان الشعر عنقاء العرب أو كطائر الفينيق – على حد تعبير الدكتور عبد العزيز المقالح-  تلك الطيور الخرافية المقاومة للموت والمتجددة باستمرار في الفكر الأدبي العربي، لينتقل بعد ذلك  إلى معالجة الحضور المكثف للفظ القصيدة في الإنتاج الشعري للشاعر شربل داغر  باحثا عن دلالات هذا الحضور من خلال النظر في جملة من القصائد  وعناوينها التي تمثل فيها تلك المفردة اللغوية لقطة مشعة،  مما يلفت  نظر القارئ إلى طرح أسئلته الاستكشافية لتلك النصوص حول الفكرة النقدية الموجهة للتجربة الإبداعية لشربل  داغر لإثارة الاهتمام بهذه المفردة . ولم يفت الباحث في هذا السياق  الوقوف على مواصفات الكتابة الشعرية لشربل داغر خاصة ما يتمثل في الخروج على شكل القصيدة العربية، وما لذلك  من علاقة بالرؤية  واللغة الشعرية، وبوقوفه على بعض النصوص الشعرية أحال على الالتزام الفني  في التجربة الإبداعية لشربل داغر ومسؤولية الفنان في المجتمع،  منبها على أن النصوص المطولة في هذه  التجربة لا شك ستأخذ طريقها للعرض المسرحي منا في "إطار صورة" مثلا من ديوانه الشعري: "على طرف لساني". أو ترانزيت. كما ركز  الباحث في هذه المداخلة على انشغال الكاتب بالحضور اللغوي والدلالي لمفردة القصيدة في تجربته الإبداعية، معتبراً أن ذلك الحضور يندرج  في سياق الرغبة الملحة للقارئ العربي المعاصر في تكوين تصور عن مفهوم الشعر والقصيدة العربية باعتبارها وجها حضاريا لمدى تجاوب الشاعر مع الحالة الوجدانية لعصره بآماله وآلامه بتطلعاته ومشاريعه، وبموقعه في الإجابة على الأسئلة الثقافية التي تضمن الحضور الفاعل للنص الشعري في النسيج الثقافي الحضاري للمجتمع، لا حضور المستهلك للمنتجات الثقافية التي تقذف بها الثقافات المهيمنة. ومن أجل ذلك دعا الباحث إلى  قراءة  هذا التصور من خلال النصوص الشعرية لشربل داغر، من جهة، ومن خلال آرائه النقدية المتناثرة في ثنايا مجموعاته الشعرية، من جهة أخرى، من أجل استخلاص العلاقة العضوية للفكر الأدبي العربي بالقصيدة في مفهومها المستعصي على الفهم البسيط. وكان للدكتورة حورية الخمليشي أن تتناول في مداخلتها "التواشجات" بين التصويري والكتابي في شعر داغر، إل أن ظروفا صحية حالت دون مشاركتها.

 

"الضجر ليس صديقي"

بعد ذلك علَّق الكاتب شربل داغر على مداخلات الدارسين في رواياته وشعره، فقال : "الضجر ليس صديقي. قلما ألتقيه. لي في الحياة ما يشغلني كفاية، وما يوقد حواسي. وفي حياة الكتابة – كما أعايشها، كما أمارسها – ما لا يجعل الضجر أليفي، أو من يسبقني إلى شاشة الحاسوب. ففي الكتابة متسع من التيه، من التجوال، من الكشف، ما يُعوِّضُ أحياناً عن مباهج الحياة نفسها.

انصرفتُ إلى كتابة الرواية في السنوات الأخيرة؛ ووجدتُ فيها متعة هي غير ما أعايشه في القصيدة. لطالما شككتُ في قدرة الشاعر – أي شاعر – على كتابة رواية. إذ إن القصيدة – كما تُكتب في ثقافتنا – تقوم على تموقع مختلف، ما دام أنها قصيدة المتكلم المنخرط والمنغمس تماماً في ما يكتبه، حتى إنه لا يميز تماماً بين الوجود نفسه وبين قول الوجود. ذلك إن الشاعر غالباً، في ثقافتنا، متكلمٌ نرجسي، متضخم الأنا في أحوال كثيرة، ما يمنعه من أن يتبين أو أن يقيم مسافة بينه وبين ما يقوله، مثلما تطلبها كتابة الرواية.

هذا ما دعاني منذ سنوات بعيدة إلى التبرم من القصيدة، كما تُكتب في ثقافتنا، ومن تحكم المتكلم بها. هذا ما قادني في الشعر، بعد العام 2006 على الأقل، إلى كتابة قصائد يتلفظها "متكلمون" مختلفون، ما يقع في الحوارية، لا في الإرسال من طرف واحد.

ومن يعد إلى روايتي الأولى، "وصية هابيل"، يجد أنها قامت على مبنى حواري. وكان في هذا التجريب ما جعلني أتبين – واقعاً – ما إن كنتُ قادراً على التلطي، لا على الظهور، على بناء ذوات ذات مقاصد ورؤى مختلفة، لا على إطلاق الأنا لعنانها في القصيدة... هكذا كتبتُ أكثر من رواية، ولا يتماثل السارد فيها أبداً معي، لا عمراً، ولا عملاً، ولا شبهاً، وغيرها من التحديدات.

ففي الرواية يمكنني أن أكون طفلة في السادسة من عمرها، أو عجوزاً متصابية، كما في شخصيات روايتي الجديدة، التي هي قيد الطبع، فيما لا أستطيع ذلك في الشعر، بل أستطيع غيره...

المتعتان مختلفتان، وبينهما صلات أكيدة. كما أن انغماسي في كليهما مختلف، بين البروز والتخفي، بين التكثيف والانتشار، بين رفع الصوت وبين توزيعه في مقامات مختلفة. لهذا تبدو الرواية إمكاناً لحيوات أخرى، مختلفة، فيما القصيدة تتطلب – في شغلي عليها – استغراقاً لحظوياً، "هنا والآن"، حسب العبارة اللاتينية المأثورة".

الجلسة الختامية قرأ فيها الشاعر شربل داغر منتخبات من مجموعاته الشعرية : "دمى فاجرة"، و"القصيدة لمن يشتهيها"، و"لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، و"حاطب  ليل". 

(مجلة اتحاد كتاب الأنترنت المغاربة، 12 حزيران-يونيو 2016).